إدمان الإنترنت هو مصطلح بدأ يتردد في كثرة خلال السنوات العشرة الأخيرة، وأثير حوله كثير من اللغط بين مؤيد محذر ومعارض مُهون، فالاعتقاد الشائع أن أنواع الإدمان المادية هي الأكثر خطورة على الحالة الصحية والعصبية للفرد، والمقصود بالإدمان المادي هو إقدام الشخص على إدمان إحدى المواد وتعاطيها بصفة دورية، وأشهر هذه الأنواع هو إدمان المخدرات أو إدمان الكحول وغيرها من المواد، أما الإدمان السلوكي المتمثل في إدمان الشخص لعادات معينة فقد ينظر له على أنه أمر تافه مقارنة بالنوع الأول، وقد يراه البعض تافه في المطلق ولا يستحق مجرد الالتفات إليه، ماذا يضير الشخص إذا قضى ساعة أو ساعات أمام الشاشة يتنقل بين المواقع المختلفة؟!.. لكن الحقيقة أن العلماء حين تناولوا الظاهرة بالبحث كان لهم رأياً آخر، وأكدوا في أكثر من ملتقى على مخاطر هذا النوع من الإدمان السلوكي، ولنبرهن على تلك الخطورة وأن الأمر ليس هيناً للدرجة التي تصورها الغالبية، فيكفي القول أن الولايات المتحدة في عام 2003م اعتمدت إدمان استخدام الإنترنت رسمياً كحالة مرضية، وفي العام نفسه تم افتتاح أول مركز لعلاج إدمان الإنترنت
من أنواع الإدمان .. إدمان الإنترنت :
لا خلاف على أن شبكة الإنترنت صارت ضرورة لا غنى عنها وجزء أصيل من يومنا، فتقريباً يمكننا أن نجزم بأن لا شيء نفعله إلا ويلعب الإنترنت دوراً به، ابتداءً بالعمل أيا كانت طبيعته وانتهاءً باللهو وقضاء وقت فراغ مسلي، مروراً بالتواصل مع الأصدقاء ومتابعة الأخبار وخلافه.. لكن كأي شيء آخر في حياتنا يجب أن يتم بمقدار معين، هو المقدار الذي يجعل الشخص يغتنم فوائده ويقيه مما قد ينتج عنه من أضرار، وأضرار الإفراط في استخدام الإنترنت والاعتياد عليه بالغة، وهو ما دفع العلماء إلى تصنيفه كأحد أنواع الإدمان المعاصر واستحدثوا مُسمى إدمان الإنترنت
نسبة إدمان الإنترنت :
قبل التطرق إلى أضرار إدمان الإنترنت وما قد ينتج عنه من مشكلات عديدة، علينا أولاً التعرف على النسبة المُعرضة لهذه المخاطر حول العالم، وهو ما قام فريق بحثي أمريكي بدراستها وتحديدها بدقة، فبناء على ما تم نشره مؤخراً في إحدى المجلات الطبية الخاصة بمجال علم النفس، فأن حوالي 6% من سكان كوكب الأرض يعانون من إحدى درجات إدمان الإنترنت ،أي أن تعدادهم يقارب حوالي 182 مليون شخص موزعين بأنحاء العالم، وبالنسبة لمنطقة العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام فقد جاءت في مرتبة متقدمة، إذ بلغت نسبة مدمني الإنترنت بهذه البلدان حوالي 11% من إجمالي نسبة المدمنين، أما بلاد شمال وغرب أوروبا فقد جاءت على النقيض تماماً بنسبة بلغت حوالي 2.4% فقط.
ودقة وصدق هذه الدراسة المتناولة لـ إدمان الإنترنت يتضح من آلية عملها، إذ أن هذه النتائج جاءت من خلال التحليل السلوكي لحوالي 90 ألف شخص، تم اختيارهم من شرائح عمرية واجتماعية متفاوتة ومن بلاد مختلفة بلغ عددها 31 دولة، ومن خلال الاستبيان عن سلوكهم تم التوصل إلى تلك النسبة سالفة الذكر، والتي تشير إلى الأشخاص الذين اتسمت طبيعة سلوكهم بالأعراض المعروفة لـ إدمان الإنترنت ،والتي يمكن اختزالها في قضاء فترات مبالغ بها أمام الإنترنت دون ضرورة لذلك، وكذلك إصابة الشخص بحالة من الانزعاج الشديد حال انقطاع الإنترنت أو صعوبة توصله إليه.
أسباب إدمان الإنترنت :
إدمان الإنترنت مثله كمثل كافة أنواع الإدمان الأخرى، عادة ما يأتي كنتيجة لمعاناة الشخص من مرض نفسي معين، أما عن السبب في التزايد المستمر لحالات إدمان الإنترنت ،فهو ما يمتلكه هذا العالم الافتراضي من خواص مميزة، جعلت منه ملاذاً وحلاً مثالياً بالنسبة لكل من يعاني من مشاكل بالصحة النفسية وهي:
- الهروب : كل من يعاني من مشكلة مع واقعه ويعجز عن مواجهتها، يجد في الإنترنت مهرباً من تلك المشاكل، إذ أنه يدخل إليه ويخلق عالمه الافتراضي الخاص منعزلاً باختياره عن الواقع، وهو ما يجعل إدمان الإنترنت في هذه الحالة شبيهاً بإدمان المخدرات، إذ أن كلاهما يمنح مدمنه انتشاءً خادع عن طريق سحبه خارج واقعه لفترة معينة.
- السرية : يمكن للشخص الذي يعاني من أزمة نفسية أن يحدث أي شخص ويبوح له بأي شيء، فهو هنا يشعر بالأمان كون الطرف الآخر لا يعرفه شخصياً ولا يمكنه فضح أمره.
- التعويض : الإنترنت هو ملجأ كل شخص يعاني من أحد أشكال الشعور بالنقص، أو فقدان الثقة بالنفس وعدم القدرة على الشعور بقيمة ذاته وأهميتها، فعلى سبيل المثال الشخص الانطوائي يلجأ إلى الأنترنت لخلق صداقات افتراضية فقط لتعويض نقصه، كذا يمكن للشخص الساخط على نفسه أن ينتحل الشخصية التي يطمح أن يكون عليها من خلال الإنترنت.
مخاطر إدمان الإنترنت الصحية :
كذبوا إذ قالوا أن إدمان الإنترنت ما من أضرار له تنعكس على الصحة البدنية، فصحيح أن هذا الإدمان لا يتضمن تعاطي مواد معينة، ينعكس تأثيرها المباشر على صحة وسلامة أعضاء الجسم المختلفة، إلا أنه رغم ذلك له العديد من الآثار غير المباشرة التي تضر بالصحة الجسمانية للإنسان، وتنتج هذه الآثار عن الجلوس في وضعية ثابتة لفترات طويلة أمام شاشة الكمبيوتر، ويمكن إيجازها في :
- المصابون بـ إدمان الإنترنت هم أكثر عرضة للإصابة بآلام العظام والعمود الفقري، وذلك بسبب عدم اتباعهم طرق الجلوس الصحيحة مما ينعكس عليهم بالسلب، كما أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة أن بقاء الإنسان في وضع الجلوس لفترات طويلة يهدد سلامة العظام وصحتها.
- العين أيضاً من أكثر الأعضاء عرضة لمخاطر إدمان الإنترنت ،حيث أن أضرار الشاشة على صحة العين بالغة ومتعددة وفقاً لما هو مُثبت علمياً، وكد أكدت أكثر من دراسة أن أشعة الشاشة لها تأثير بالغ على الأجزاء الداخلية للعين، وإن التعرض لها لفترات طويلة يزيد من احتمالات إصابة الإنسان بضعف النظر في المستقبل.
مخاطر إدمان الإنترنت الاجتماعية :
وهذه الأضرار الناتجة عن إدمان الإنترنت لا تمثل كافة مخاطره، إذ أن هناك نوع آخر من الأضرار ينتظر مدمني الإنترنت، وهي الأضرار التي تحيق بنمط حياته وعلاقاته الاجتماعية :
- أخطر النتائج التي من المحتمل أن تترتب على إدمان الإنترنت ،هي عجز الشخص على الاندماج في محيطه ووسط مجتمعه مجدداً، إذ أنه يستعيض بالعالم الافتراضي الذي يحيا به عن عالمه الحقيقي، وعلى المدى البعيد تختلط مفاهيمه وتتداخل الأمور عليه، فيُفضل ذلك العالم الافتراضي الذي يألفه ويشعر فيه بأنه صاحب السيادة، ويكون الشخص أكثر عرضة لذلك الضرر إذا كان يعاني من مشكلة نفسية.
- النسبة الغالبة من مدمني الإنترنت يفقدون قدرتهم على الإنتاجية، وهذا يكون نتيجة انشغالهم الدائم وعدم قدرتهم على الامتناع عن مطالعة الإنترنت كل بضعة دقائق، وهو ما يؤثر بالطبع على عملهم ويعيق تحقيقهم لآمالهم المرجوة منه.
- العلاقات الاجتماعية بشكل عام دائماً مهددة بالانهيار في حالات إدمان الإنترنت ،إذ أن علاقة المدمن بمن حوله تتسم بنوع من الفتور وضعف الصلة، وهو ما يؤدي إلى اعتزال الآخرين له وابتعاد الأصدقاء عنه، وأحياناً يتسبب إدمان الإنترنت في وقوع حالات طلاق بين المتزوجين.
علاج إدمان الإنترنت :
علاج إدمان الإنترنت ينقسم إلى نوعين رئيسيين العامل الوحيد الذي يحدد أيهما أنسب، هو مدى إدمان الشخص على استخدام الشبكة العنكبوتية وسبب إدمانه، فالحالات التي يكون إدمان الإنترنت فيها ناتج عن تدهور الصحة النفسية للشخص المدمن، فهذه الحالة غالباً لا يمكن علاجها إلا بتوفير الرعاية النفسية المختصة، وعادة ما يصف الطبيب لمريضة أدوية مضادات الاكتئاب، والتي تساعده على تخطي أزمته النفسية ومن ثم التخلص من إدمانه لاستخدام الإنترنت، حيث أنه لا يصبح لديه أسباب تدفعه إلى الهروب إليها من الواقع، وهذه هي المرحلة الأولى فقط من مراحل علاج هذا الإدمان، أما المرحلة الثانية فتتمثل في جلسات تعديل السلوكيات التي تهدف إلى إعادة تأهيل المريض، ومساعدته على العودة إلى واقعه والاندماج مع مجتمعه من جديد.
وتلك الأساليب العلاجية لا يتم اللجوء إليها عادة إلا مع حالات الإدمان المزمنة والمركبة، والتي يكون مبعثها غالباً معاناة الشخص من مشكلة نفسية ما، أما النسبة الغالبة من المصابون بـ إدمان الإنترنت فيكون إدمانهم غير مزمن، وفي الأغلب يكون ناتج عن عملية اعتياد قضاء ساعات طويلة أمام الإنترنت، للدرجة التي يصبح معها تخليهم عنه والانتباه إلى أنشطة حياتهم الأخرى أمراً عسيراً، وهذه الفئة يمكنهم معالجة أنفسهم بالسيطرة على تصرفاتهم والانتباه إلى السلوكيات التي يمارسونها، للتخلص من تلك العادة الضارة قبل أن تتفاقم وتتحول إلى إدمان حقيقي يلحق بحياتهم الأضرار، وقد حدد علماء النفس مجموعة من الإجراءات التي قد تساعد الشخص في التلخص من إدمان الإنترنت
خطوات التغلب على إدمان الإنترنت :
خير وسيلة لتقويم سلوكيات معينة هي اتباع مجموعة سلوكيات أخرى، وفيما يخص إدمان الإنترنت فإذا كنت ترى أن أعراض هذا الإدمان ظاهرة عليك، فربما عليك الآخذ بتلك النصيحة واتباع ما يلي :
- الهوايات : جميعنا نملك هوايات بعضها اندثر تحت وطأة إدمان الإنترنت والتكنولوجيا، والعودة إلى ممارسة هذه الهوايات تعد إحدى سبل التغلب على ذلك الإدمان، فالانشغال بها سيدفع الشخص إلى التغاضي عن قضاء ساعات متصلة ملتصقاً بشاشة الكمبيوتر، بجانب أنها من الأمور المحببة إليه وبالتالي لن يمل أبداً من ممارستها.
- فترات محددة : الخطوة الثانية نحو التخلص من إدمان الإنترنت تتمثل في تحديد الجرعة، فباعتبار النت إدماناً فلابد من التخلص من هذا الإدمان بشكل تدريجي، بمعنى أن يقلل الشخص من ساعات استخدامه للإنترنت يوماً بعد يوم، وهنا ينصح علماء النفس بضبط منبه أو أي أداة تنذر الشخص بانقضاء المدة الزمنية المخصصة للإنترنت، أو التوجه إلى أحد مقاهي الإنترنت وحجز أحد الأجهزة لمدة معينة والقيام فور انتهائها.
- الهاتف الجوال : أحد العوامل الرئيسية المتسببة في تفشي ظاهرة إدمان الإنترنت هي سهولة الحصول عليه، وقبل سنوات قليلة منصرمة كان الحصول عليه يتطلب المكوث داخل المنزل، والاضطرار إلى الثبات أمام شاشة الكمبيوتر، أما اليوم فقد صار الإنترنت متوفراً على الهواتف النقالة وأصبح الاتصال به لا يتطلب أي عناء، ولذا ينصح أطباء النفس بضرورة حذف تطبيقات الإنترنت من على الجوال، كي يتمكن الشخص مدمن الإنترنت من تقليص عدد ساعات استخدامه له.
- النشاط المجتمعي : الاشتراك في الأنشطة الخيرية والمساهمات المجتمعية أيضاً من وسائل التغلب على إدمان الإنترنت ،بل وأي نوع من أنواع الإدمان السلوكي مثل إدمان الشراء والتسوق وغيره، إذ أن هذه الأنواع من الإدمان عادة تنشأ كنتيجة لحالة الشعور بالفراغ التي تنتاب الشخص، ولا شيء أفضل لملأ هذا الفراغ سوى المساهمة في الأعمال الخيرية ومساعدة الغير، فبجانب ملأ الفراغ سيساهم ذلك في إشعار الفرد بقيمته في مجتمعه، وينمي ثقته بنفسه ويمكنه من التغلب على أي نوع من المتاعب النفسية، والتي قد تكون هي المتسبب الحقيقي في إدمانه للإنترنت.
هذا كله لن يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا كان الشخص معترفاً بأن سلوكياته في حاجة إلى تعديل، وأن تكون لديه إرادة وإصرار على تحقيق ذلك، أما إذا باءت هذه المحاولات بالفشل ولم تنجح في دفعه إلى الابتعاد عن إدمان الإنترنت ،فهذا يعني أنه ينتمي إلى أصحاب الإدمان المزمن للإنترنت، والأفضل حينها هو زيارة طبيب مختص واستشارته في الأمر.