هل استمعتم قبل ذلك لسيموفونية المؤلف الموسيقي العبقري نينا روتا والتي كانت هي نفسها الموسيقي التصويرية لسلسلة الفيلم العظيم “الاب الروحي God Father”؟
هل استمتعتم بقصائد الشاعر المبدع الرقيق نزار قباني؟
هل عرفتم الشعور العجيب الذي انتشيتم به فور سماعكم لأغنية من أغاني فيروز في الصباح الباكر؟
هل شعرتم من قبل باحساس النشوة بعد مطارحة رومانسية للحب مع الحبيب بعد اشتياق طال في الزمن سنوات؟
هل عرفتم احساس اللذة وأنتم تحتسون القهوة الصباحية في مقهي عتيق على شاطئ البحر في الشتاء؟
هل شعرتم من قبل بالخدر اللذيذ الذي أبدعت في وصفه الأديبة المبدعة أحلام مستغانمي في روايتها الجديدة الأسود يليق بك؟
هذه الحالات المختلفة هي حضور مختلف لحالة واحدة وشعور واحد لا أراه يعبر عن شئ نستطيع وصفه بالحروف والكلمات ولكن اذا حاولنا فهي حالة الصفاء, الانطلاق, العلو, الارتقاء, النقاء, الطهر, العروج ,ويسميها الهندوس النيرفانا ………
النيرفانا
النيرفانا في كتب الهندوس وهي كلمة هندية سنسكريتية “معناها “النشوة” أو “الغبطة المستديمة” وهي التي يصبو الىها الإنسان في كل مراحل حياته منذ ولادته حتى مماته, هي شعور المحبة الدائم, النقاء, الصفو ورمز الكمال الأعلى والأمل بالوصول إلى الجنة والفردوس. عند الشعور بالمحبة والتعامل مع الآخرين بنفس الشعور فإن الروح تصقل وتهذّب فتطِّهر وتنقي القلوب ويمنحها المزيد من البريق والصفاء والإنسجام والتسامح”.
وفي كتب البوذيين في بلاد الهند والتبت, وحتى في كتب المتصوفة المسلمين والرهبان المسيحيين, وأهل القبالة الىهودية سنرى مفهوما قريب بل وشديد القرب والصلة من مفهوم النيرفانا عند الهندوس وكأن الجذور والمصادر واحدة ولكنها تجلت بأكثر من شكل وأكثر من رافد معرفي وايماني. وسنطرح لكم من خلاصة هذه المعتقدات والطرق الروحانية الخالصة المعراج الذي أجمعوا علىه بدون أن يجتمعوا ولا يعرفوا الكثير عن أفكار بعض. هذا المعراج الروحاني هو الذي يسلكه الانسان ليصقل نفسه ويطهرها ويصل بها لمرتبة روحانية شفافة وهي حالة النيرفانا.
المراحل الثمانية للمعراج الروحي هي:
- الآراء والفهم الصحيح.
- النوايا والتفكير الحسن.
- الكلام والقول الصحيح.
- الأعمال والأفعال الحسنة والصحيحة.
- المعيشة والإرتزاق الصحيح.
- الجهد الصحيح.
- الىقظة والإستنارة الصحيحة.
- الذهن الصحيح .
وللوصول إلى حالة النيرفانا حسب معتقد البوذيّة على الانسان إتباع سلوكيات وأخلاقيات العزلة والانطواء الذاتي, وجرت العادة منذ القدم أن تتم طقوس الاختلاء بالنفس في كهوف جبال التبت الهادئة والتي تتيح للمتأملين جوا مناسبا لتعبدهم وتفكرهم, و”هذه السلوكيات طبقا للتعالىم الموروثة تتطلب ممارسة أربع فضائل والتي تسمى “قصر البراهما” وهي: الإحسان, الإشفاق, التفكير الإيجابي والرزانة. هذه الفضائل تساعد على إنبعاث الحياة الأفضل. وبممارسة هذه الفضائل الأربعة وممارسة التعالىم الأخلاقية الثمانية التي بمثابة معراجا روحيا للناسكين التي ذُكرت سالفاً يمكن عندها القضاء على الآلام الثلاثة الشريرة وهي :” الشهوة والحقد والجهل”. لذلك فالنيرفانا هي حالة الشعور والادراك والوعي الكامل التي تمكن الانسان من التخلص نهائيا من الشهوات المادية والانغماس الغير مرغوب في اللذات الفانية والرغبات القبيحة والمرفوضة حتى لو يقبلها غيره من غير الناسكين. لذا فإن حالة ” النيرفانا ” الكاملة التي يصل الىها الإنسان بعد فترة التأمل والتعمق, تعطي مناعة ضد التأثر السهل بالمؤثرات الخارجية خاصةً السلبية منها وحتى لو مؤثر ايجابي تجد الانسان لا يفرط في الفرح بشكل مبالغ, وأن الإنفصال الذهني والجسدي الكلي عن العالم الخارجي ما هو إلا بهدف شحن الطاقات الروحية الإيجابية من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والغبطة المستديمة والتخلص من الشهوات وذلك من أجل الإبتعاد عن الشعور السلبي والحزن والقلق والترفع إلى الشعور الإيجابي والكمال والقيام بالأفعال الجليلة والصادقة.
الوصول الى قمة المعراج الروحي غاية يدركها النادرون أو كما قال لي أستاذي عن سؤالى له هل تتلاقي يا مولانا الفلسفة والدين؟ فقال كل الفقهاء والفلاسفة قالوا بما ينافي ذلك وحتى الذين قالوا بجواز التلاقي مثل ابن رشد لم يكن له من الحجة والبرهان ما يمكننا من الارتياح لما قال. ولكن قال لي القمم تتلاقي حتى لو كانت الوديان مترامية وبعيدة, فقلت كيف؟ فقال أن الحكمة الفلسفية تتلاقي في قمتها مع قمة الايمان وهي الصفاء والنقاء وما اجتماعهم الا هو نفس الحالة التي يصلها الاخيار والنادرون من البشر بعد كفاح مرير مع النفس يقول عنه الرسول الكريم صلي الله علىه وسلم “الجهاد الاكبر”. وكما جاء في الكتاب المقدس من إنجيل متى البشير الإصحاح الخامس والآيات 43+44 عن لسان السيد المسيح له المجد: “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون الىكم ويطردونكم”. ومن يعمل حسب هذه التعالىم فلا بد له من وصول, ولابد أن كل هذا الزرع من بذور الخير والنقاء والرحمة سيطرح حتما في حياة الانسان نوعا من الحصاد الجميل الذي سيطير به في السماوات الرحبة وعالم الطهر والصفاء بعيدا عن دنو المتدنين وسفاهة السفهاء وأطماع الطماعين الرخيصة. هؤلاء أبعد ما يكونون عن سماواته الرحبة التي طار الىها قاصدا الخير ولكن هم ارتضوا بالحياة الدنيا وهي دار الغرور والمكسب الزهيد الزائل.