ربما لا توجد مأساة قد تتعرض لها الأم أشد من إخبارها بأن طفلها مصاب بـ التأخر العقلي ،فوقع الخبر الصادم عليهما لا يمكن أبداً اعتباره أمراً هيناً، وحينها تنتاب الآباء حالة من الجزع والهلع ويتصوران أنها نهاية الحياة، لكن في النهاية يجب التوقف للحظة وطرح السؤال المنطقي “وماذا بعد؟”، فتعرض فرد من الأسرة للإصابة بمرض التأخر العقلي ،هو أمر واقع لا مفر منه ولا بديل عن مواجهته، ومن ثم فأن الحل الوحيد المتاح هو التعرف على طبيعة هذا المرض وطرق التعامل معه، والتي تتوقف على مدى حالة التأخر العقلي التي يعاني منها المصاب.
ما هو التأخر العقلي :
مرض التأخر العقلي أو Mental retardation هو قصور في النمو العقلي، ينتج عنه تدني مستوى الذكاء عن الحد المتوسط، مما يشكل عائق اجتماعي يحول دون اندماج المصاب في محيطه، ويمنع الطفل من اكتساب العديد من المهارات الاجتماعية، كما أن التأخر العقلي له تأثير سلبي بالغ على الاستقرار النفسي.
التعامل مع التأخر العقلي :
من المعروف أن التأخر العقلي يصنف ضمن الحالات الخاصة، والاستنتاج البديهي من ذلك أن التعامل معه يتطلب رعاية خاصة، وقد أقر خبراء النفس مجموعة من القواعد الواجب الالتزام بها عند التعامل مع حالات التأخر العقلي
التوقف عن الإنكار :
الخطوة على طريق التعامل مع الطفل المصاب بـ التأخر العقلي ،تتوقف على مدى قدرة الأسرة عموماً والآباء خاصة بتقفل الواقع، والتوقف عن إنكار حقيقة أن الابن مصاب بدرجة من التخلف أو التأخر العقلي ،وفي الواقع أن هذه الخطوة في غاية الأهمية كونها الأساس الذي ترتكز عليه أية تصرفات أخرى، وكلما كان تأقلم الأسرة مع هذه الحقيقة أسرع كلما كانت النتائج أفضل، حيث سيمكنهم البدء في التعامل مع التأخر العقلي بالخطوات العلمية المناسبة له في وقت مبكر، وسيوفرون على الطفل عناء معاملته لفترة على أنه طفل سوي، وهو ما سيرهقه ويكلفه بما يفوق طاقته على الاحتمال.
تهيأة الأسرة :
التأخر العقلي هو ليس مشكلة الطفل المصاب به وحده فحسب، إنما معناة التأخر العقلي تنعكس على محيط الطفل الأسري بوجه عام، وقد يكون تأثير ذلك عليهم أقوى وأشد كون الطفل لا يدرك بشكل تام حقيقة ما يعاني منه، ولذا على الآباء فور اعترافهم بالحقيقة وإقرارهم بالواقع، أن يعملا على تهيأة المحيط الأسري لاحتضان الطفل المصاب بـ التأخر العقلي ،وذلك بهدف توفير بيئة ملائمة لظروفه وحالته الخاصة يمكنه التعايش فيها ومعها، ويزداد الأمر أهمية وصعوبة إذا كان يتواجد بالمنزل أطفال آخرين، خاصة وأن في المجتمعات الشرقية يرون في تعرض أحد أفراض الأسرة لـ التأخر العقلي سُبة وعار، وهو بالتأكيد أمر مخالف للعقل ومضاد للمنطق ولا أساس له من الصحة، وعادة يضع المشرف النفسي مجموعة من القواعد وبعض الإرشادات، التي تمكن الآباء من القيام بتلك المهمة وهي تهيأة البيت لاستقبال الطفل المتأخر عقلياً.
الحالة النفسية للطفل :
من السلوكيات التي يمكن وصفها بـ”سلوكيات خطرة” عند التعامل مع المريض بـ التأخر العقلي ،هو إهمال الصحة النفسية لطفل التأخر العقلي ،وعادة ما يكون ذلك نابع عن جهل بها واستهانة بأهميتها، لكن الحقيقة أن طفل التأخر العقلي قد يكون أقل ذكاءً عمن هم في مثل سنه، قد تكون قدراته المعرفية والفكرية متسمة بالضعف والضمور، إلا أن مداركه تعمل بشكل طبيعي ويمكنه التفرقة بين أساليب المتعاملين معه، فيجب منع الأطفال الآخرين المحيطين به من التعرض له بالنقد السخيف، أو أن يتخذون من المصاب بـ التأخر العقلي مادة للسخرية والاستهزاء، فذلك كله يؤثر سلباً على الصحة النفسية لطفل التأخر العقلي، ومن ثم يشكل إعاقة للبرنامج التنموي الذي يتم اتباعه معه، بل والأخطر أن إذا كانت هذه المضايقات مصدرها أفراد الأسرة المقربين، فإنها تؤدي إلى انزواء المريض بـ التأخر العقلي عنهم، وتعمل على تهديم الروابط الأسرية التي تربط بينه وبينهم.
التواصل :
يوصي خبراء علم النفس التربوي بضرورة التواصل مع الأطفال، ومشاركتهم الأنشطة التي على درجة من الأهمية بالنسبة لهم كالألعاب والهوايات، وإذا كان هذا هو الحال مع الطفل ذو المواصفات الطبيعية فكيف يكون مع الطفل المصاب بـ التأخر العقلي؟!.. يؤكد الخبراء بهذا المجال على التأثير القوي للتواصل مع طفل التأخر العقلي ،ويعددون فوائده ويشيدون بمساهمته في عملية الارتقاء بقدرات الطفل، والتواصل مع مريض التأخر العقلي يمكن أن يكون بشكل مباشر، عن طريق تبادل الجمل الحوارية ومناقشته مباشرة، أو أن يتم أثناء إجراء أي نشاط محبب له كممارسة إحدى الألعاب مثلاً، وهذا الحوار يعمل على تنمية القدرات اللغوية لدى الطفل كأساس، بجانب مساهمته في تنشيط قدراته الذهنية وتفتيح مداركه، على أن يتم الالتزام باستخدام الجمل القصيرة المركزة، والحرص على أن تكون الجملة مباشرة وواضحة لا تحتمل أكثر من تأويل، وذلك حتى يسهل استيعابها وفهمها بالنسبة للطفل المصاب بـ التأخر العقلي
الالتزام بالبرنامج :
عند ابتداء التعامل مع الطفل المصاب بـ التأخر العقلي لابد أن يتحلى الأب والأم بالصبر، فبرنامج التأهيل الذي سيضعه المتخصص لن تجنى ثماره إلا على المدى البعيد، فلا داعي من وضع آمال مبالغ فيها تجنباً للتعرض إلى الإحباطات وخيبة الأمل، فإن هذه البرامج لن تحول الطفل المصاب بـ التأخر العقلي إلى طفل طبيعي، لكنها لها أهمية قصوى في تدريب الطفل على استخدام القدرات المتاحة له، ولتحقيق ذلك يجب الالتزام التام بالبرنامج التأهيلي الذي سيحدده المختص، والذي يتناسب مع قدرات الطفل ونسبة الذكاء المتوفرة له، وهنا يجب التعرف على الفئات المتدرجة لمرض التأخر العقلي
فئات التأخر العقلي :
يقوم علماء النفس بواسطة مقياس الذكاء بتحديد فئة الطفل المصاب بـ التأخر العقلي ،ومن خلال ذلك القياس يمكنهم وضع البرنامج التعليمي التأهيلي الذي يناسب قدراتهم، وهذا التقسيم ينقسم بوجه إلى 4 مستويات هي كالآتي:
- نسبة ذكاء 75: 90 : حالات التأخر العقلي التي يتراوح فيها مستوى الذكاء بين 75: 90 درجة، هي فئة من التأخر العقلي تتسم ببطء عملية التعليم، وهذه الفئة هي الأقرب للطفل الطبيعي إلا أنه يصعب عليه استيعاب المناهج التي يتلقاها من هم في مثل عمرهم، ومن ثم يكون تحصيلهم العلمي والمعرفي أقل من المعتاد.
- نسبة ذكاء 50: 74 : وهي فئة التأخر العقلي أخرى قابلة للتعليم لكن قدرتهم على التحصيل ضعيفة، وهؤلاء يتم توفير مناهج مبسطة خاصة بهم، تتناسب مع حالتهم المرضية ويتم تدريسها من قبل معلمين متخصصين في التعامل مع الحالات الخاصة.
- نسبة ذكاء 30: 49 : هذا المؤشر بمقياس الذكاء يشير إلى حالة من التأخر العقلي يصعب معها التعليم المعرفي، ولكن يمكن أن يتلقى طفل التأخر العقلي من هذه الفئة تعليماً مهنياً، والمقصود بالتعليم المهني هنا هو إمكانية قيام الطفل ببعض المهام البسيطة بنفسه، كتعليمه كيفية تناول طعامه بنفسه وكذا القيام بأمور نظافته الشخصية، ولكن في كل الأحوال يجب أن يتم ذلك تحت إشراف آخرين.
- نسبة ذكاء أقل من 30 : هي أصعب حالات التأخر العقلي التي يتجاوز القصور فيها حد القصور الذهني، فعادة ما يكون الطفل المريض من تلك الفئة يعاني من قصور حركي أو حسي، وهذه الحالات تحتاج إلى رعاية كاملة مدى الحياة من قبل الآخرين.