“ما تزرعونه….هو حصادكم”
هذا هو خلاصة القول وخلاصة الامر. الكارما وهي كلمة من أصل سنسكريتي والسنسكريتية من اللغات القديمة في الازمنة الغابرة مثلها مثل السريانية واللاتينية والارامية القديمة التي تكلم بها المسيح عليه السلام. والكارما في معناها عند الهنود الشرقيين عبارة عن قانون أخلاقي نابض في النفوس والضمائر ولم يضعه أحد, ولا يعدله أحد. هو قانون خاص جدا يستشعره الانسان بنفسه ولا يتدخل أحد أي كان في تشكيله أو تعديله. هو قانون الزرع والحصاد. الكارما لمن لا يعتقد في صحتها ربما تكون نوع من الفلسفة او الرؤية الفلسفية لفكرة الاسئلة التي من عينة “لماذا يخلق الله الشر والفقر والمرض والحرب والقتل؟” .وهي من الاسئلة الوجودية التي تشغل كل المهتمين بالفلسفة والمنطق. أسئلة صعبة تشغل الفلاسفة الكبار منذ قدم التاريخ وحتى هذه اللحظة ولم ننال فيها اجابات شافية فعلا. هل تجيب فكرة الكارما وفلسفتها عن هذه الاسئلة الصعبة وتريح النفوس الحائرة؟
الكارما وفكرة تناسخ الارواح
في كتب الهنود تجد أن الكارما هي عبارة عن الطرح الشخصي لفكرة الفعل ورد الفعل. فكرة الزرع والحصاد, وهنا لابد أن ننتبه الى حقيقة من الحقائق التي يعتقدون فيها ولا نعتقدها بحكم انتمائنا لأديان رسالية سماوية سواء الاسلام او المسيحيية او اليهودية في منطقتنا العربية. هذه الحقيقة التي يعتقدونها هناك هي فكرة تناسخ الارواح التي سنفرد لها عدة مقالات لاحقاً في موقعنا هذا. اذن هم يعتقدون مثلا أن ما يعانيه طفل شوارع فقير ومتشرد هو النتاج والحصاد المباشر لما اقترفته يداه هو نفسه في حياة سابقة تجسد فيها بشكل مختلف وعاش عيشة مختلفة وطبقا لقانون الكارما الخاص به كان قد أخطأ وكان قد زرع الشر بنفسه لغيره وبالتالي حتى يتم تحقيق التوازن والعدل فهو يدفع الثمن في حياته الحالية, وهذا هو حصاده العادل. ويقولون بأن بعد ما يغير من نفسه للافضل ويتحمل بشرف وصدق ما يعانيه يحول بوصلة الكارما للأفضل وللايجابية لأنه لم يتذمر ولم يضجر من دفع الثمن, وبالتالي هو يقوم الان بزرع الخير والقيم الايجابية من صبر وتسامح وقبول ورضا وهذا سينعكس بالخير عليه سواء في حياته الحالية أو في حياته القادمة لأنه قد طهر نفسه وغسل روحه بالطهارة والنقاء من دنس الخطايا والشر.
اذن طبقا لقانون الكارما عند الهندوس يصارع الانسان نفسه. يحول بوصلتها داخله بنفسه من الانغماس في شهواتها المادية الطينية ويحولها الي التعمق في شفافيتها وروحانيتها حتى يستشعر بالقيم العليا والخلق القويم ويستحق بعد مجاهدات صعبة أن يعلو فوق مسار الزمن ويخلد أي ينال الخلود الابدي. وعلينا أن ننتبه هنا أيضا أن الكارما عند الهندوس قانون أخلاقي خارج أي ارادة الهية أو سلطة عليا تتدخل بالعفو أو الغفران مثلا. فهم يرون أن التطهر والعفو يأتي بالقانون بحد ذاته بأن تخفف ردود الافعال على الانسان أو تخف عنه وطأة الالم والعذاب الذي يعانيه في الحياة لكن لا يوجد لديهم في معتقدهم ما يسمي عند المسيحيين بالغفران وعند المسلمين بالعفو والشفاعة. وتتحدد وفقا للكارما كل ما يتعلق بالانسان في كل حياة يعيشها ويتجسد فيها سواء مظهره الخارجي, الذكاء, العمر, الثراء أو الفقر, والمستوي الاجتماعي والعلمي والفكري. هذا يعني أن الانسان الفقير مثلا في حياة سابقة باحساسه بالرضا وعدم الجزوع, وشكر النعم القليلة في حياته السابقة سيكون بحكم قانون الكارما في حياته التالية في مستوى مادي أفضل بالتأكيد ثوابا له على ما قد زرعه من خير في حياته السابقة.
فكرة الكارما والاديان السماوية
عندما يحاول علماء الاديان السماوية والفقهاء المتفقهين في علوم أصول الدين وعلم الكلام وفلسفات اللاهوت يقولون ويقربون الفكرة مع فكرة الكارما بأن الله سبحانه وتعالي من صفاته العدل والحكمة والرحمة ولذلك فمن الصعب أن يكتب على شخص منذ ولادته أن يعاني من مرض عضال الا وكان ذلك مكتوب عليه نتاجا لفعل قد سبق في عالم يسميه المسلمون عالم الذر وهو العالم المذكور في احد الاحاديث القدسية وتم الاشارة اليه في أية من أيات القران الكريم وهو العالم الروحي الذي اخذ الله من ظهر ادم ذريته واشهدهم على انه الخالق سبحانه وتعالى وشهدوا جميعا حتى لا يقولون بعد ذلك ما علمنا ولا عرفنا وقد ولدنا واعتنقنا الدين الذي وجدنا عليه اباؤنا واجدادنا وليس لنا في الامر من شئ. ولكن هذا يجعلنا نفكر هل عالم الذر عند المسلمين كان بمفهوم الكارما حياة كاملة تم التجسد فيها للنفوس البشرية وعاشوا وكان لهم في هذا العالم فعل ورد فعل وحسب أفعالهم التي زرعوها يحصدون في الحياة الدنيا ما زرعوه؟ أم أن الانسان يولد في الارض هذه على الفطرة وكالثوب الابيض ليس به دنس؟ ولو كان كذلك ما الذي يجعل طفلا يولد سليما ويعيش سليما معافي ويكبر وأخر يولد مبتسرا وبه عاهة ويعيش بها منذ اللحظة الاولى له في هذه الحياة التي لم يقترف فيها ذنب؟
سؤال صعب جدا ولكن هو سؤال منطقي ويحتاج لاجابة شافية, وللأسف كل الفلسفات والعلوم اللاهوتية والدينية لم تجب على هذا السؤال بشكل وافي وواضح أن نصيب الانسان من العلم قليل وربما أقل كثيرا من القليل. ولكن يكفي الانسان شرفا أن يموت وهو في زمرة المجتهدين والسالكين في الطريق الى الحق ولا يوجد في هذه الدنيا حقا الا الله عز وجل. وكان هذا هو منهاج النساك, واللاهوتيين, والفقهاء والمتصوفة .كانوا يفنون الاعمار في سبيل المعرفة وكفاهم هذا شرفا وعزة يقابلون بها الخالق ليجزيهم عن سلوكهم هذه الدروب الشائكة تاركين خلف ظهورهم دنو الدنيا ,وغرورها فلم يغرهم مطامعها ولا مكاسبها عن الهدف والمصير. سنستكمل في المقال القادم باقي المفاهيم المتعلقة بالكارما ونبحث معا عن فتوحات فكرية جديدة.